إن الكائنات المحورة وراثيا هي جزء من حاضرنا ومن مستقبلنا. ويعتبر كل من علماء القطاع العام والقطاع الخاص بشكل واضح أن التحوير الوراثي يشكل مجموعة جديدة وبالغة الأهمية من الأدوات، في حين أن الصناعة تعتبر الكائنات المحورة وراثيا فرصة لزيادة أرباحها. بيد أن عامة الناس تنظر إلى هذه الكائنات بعين الشك في العديد من البلدان، وهي غالبا ما تعتبرها جزءا من العولمة والخصخصة وبأنها "مناوئة للديمقراطية" أو أنها "تطفل في التقدم". ومن جهة أخرى غالبا ما لا تتوفر لدى الحكومات سياسات متماسكة بشأن الكائنات المحورة وراثيا، فضلا عن أنها لم تعد صكوكا تنظيمية وبنى تحتية ملائمة ولم تضعها موضع التنفيذ بعد. ومن هنا فليس هناك إجماع في الآراء في أكثرية البلدان بشأن كيفية مواجهة التكنولوجيا الحيوية والمحاصيل المحورة وراثيا بشكل خاص للتحديات الرئيسية في قطاع الغذاء والزراعة. وتدرك منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة على حد سواء كلا من القدرة الكامنة والهائلة وكذلك التعقيدات التي تصاحب هذه التكنولوجيات الجديدة. ويجب علينا أن نتقدم بحذر وأن نفهم كل العوامل التي تنطوي عليها هذه العملية فهما تاما. وعلينا بشكل خاص أن نقيم الكائنات المحورة وراثيا من حيث تأثيرها على الأمن الغذائي والفقر والسلامة الحيوية والزراعة المستدامة.ويجب ألا تعامل المحاصيل المحورة وراثيا بصورة منعزلة وانما بصفتها إنجازات تقنية بكل بساطة.
وعلى نفس المنوال لا يسعنا الحديث بفطنة عن الكائنات المحورة وراثيا إذا استمر النقاش على صعيد العموميات. ومن هنا فقد شرعت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة بعملية لجرد تطبيقات ومنتجات التكنولوجيا الحيوية الزراعية على الصعيد العالمي مع الإشارة بشكل خاص إلى البلدان النامية. وتشير النتائج الأولية إلى أن إجمالي المساحة التي تزرع فيها محاصيل محورة وراثيا زاد اذ بلغ 44,2 مليون هكتار تقريبا في حين كانت تمثل 11 مليون هكتار منذ ثلاث سنوات فقط. وتقع نسبة 75 % من هذه المساحة في البلدان الصناعية. وتتكون أكثرية المزروعات من أربعة محاصيل هي فول الصويا والذرة والقطن والكانولا. ويهيمن حاليا كل من الأنواع المحورة وراثيا وصفتين-مقاومة الحشرات وتحمل مبيدات الأعشاب - على نسبة 16 % تقريبا من إجمالي المساحة التي تزرع فيها هذه المحاصيل. وهناك مساحات صغيرة كذلك زرعت فيها شتول بطاطا وبابايا أدخلت فيها مورثات لتأخير النضج ومقاومة الفيروسات. ولا تزرع سوى سبعة بلدان نامية محاصيل كائنات محورة وراثيا لأهداف التسويق ،كما لا تزيد غالبية المساحات المخصصة لها عن 100000 هكتار (باستثناء الأرجنتين والصين). والمحاصيل المهيمنة في هذا الحالة أيضا هي فول الصويا والقطن والصفات هي تحمل مبيدات الأعشاب ومقاومة الحشرات. والصين هي البلد الوحيد الذي يطور محاصيل محورة وراثيا ويسوقها بالاستعانة بموارد محلية فيما حصلت البلدان الأخرى على تركيبات أو أنواع وراثية من بلدان صناعية. وتوصلت الدراسة الاستقصائية التي أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة إلى أنه قد تم تحويل العديد من أصناف الأشجار الحرجية - بما في ذلك الصنوبريات والحور والعنبر السائل والأكالبتوس- باستخدام تكنولوجيا حامض DNA معاد التركيب، إلا أنها لم توزع لأهداف تجارية. ويبدو أنها أهملت أصناف الأشجار المثمرة الاستوائية بدرجة كبيرة.
ويقوم استنتاج منظمة الأغذية والزراعة على أن اطلاق محاصيل الكائنات المحورة وراثيا الحالية ما زال محدودا جدا على صعيد المحاصيل والصفات فضلا عن أنها لم تعالج حاجات البلدان النامية الخاصة. ولكن كيف سيكون الوضع في القريب العاجل؟ لقد أجريت في جميع أنحاء العالم آلاف الاختبارات الميدانية بشأن الكائنات المحورة وراثيا أو هي قيد الإجراء، أكثرها في البلدان الصناعية. ويتم حاليا اختبار حوالي 200 محصول ميدانيا في البلدان النامية، وتقع الأكثرية الساحقة من هذه البلدان في أمريكا اللاتينية (152) وتليها إفريقيا (33) ثم آسيا (19). وينخرط عدد كبير من البلدان من غير البلدان السبعة التي سبق لها أن وزعت كائنات محورة وراثيا، فضلا عن أنه تجرى حاليا أبحاث بشأن عدد كبير من تركيبات المحاصيل والصفات حيث تركز الجهود بدرجة أكبر على مقاومة الفيروسات والنوعية، وفي بعض الحالات تحمل الظروف الصعبة غير الحيوية. ومن هنا، بات من المتوقع تسجيل زيادة كبيرة خلال السنوات القليلة القادمة في عدد الكائنات المحورة وراثيا الجاهزة للتوزيع التجاري في هذه البلدان. بيد أنه ما زالت أكثرية المحاصيل الهامة مهملة إهمالا شبه كامل - مثل الحبوب والخضار والعلف والمحاصيل الصناعية وبعض الصفات - مثل تحمل الجفاف والألمنيوم-.
وبالنظر إلى زيادة مجموعة التطبيقات المحورة وراثيا، يجب على المجتمع الدولي أن يضمن مساهمة المحاصيل المحورة وراثيا مساهمة مثلى في الأمن الغذائي والسلامة الغذائية ونوعية الغذاء في العالم واستدامته، وأن يستمر تيسرها للجمهور بصورة عامة.بيد أنه وعلى الرغم من توفر بعض الإشارات المشجعة، يوحي الجرد الذي قامت به منظمة الأغذية والزراعية للأمم المتحدة أن دراسات المورثات والأبحاث المتعلقة بها لا توجه على نحو يتيح لها مواجهة هذه التحديات الرئيسية.
وفي الواقع أدى إدراك إمكانية تحقيق أرباح من الكائنات المحورة وراثيا إلى تغيير وجهة الاستثمار في ميدان البحث والتطوير، في القطاع العام والقطاع الخاص على حد سواء إذ راح يبتعد عن المناهج القائمة على الأنظمة المخصصة لإدارة الآفات ليعتمد اعتمادا أكبر على الزراعات الأحادية. ويجب عدم إهمال التكاليف البيئية المحتملة الناجمة عن مثل هذه الاستراتيجيات على المدى الطويل
ينطوي تطوير المحاصيل المحورة وراثيا على استثمارات مكثفة وعلى الحاجة إلى تحقيق مردود عال منها. ويشير العدد الصغير من تكنولوجيات التحوير الوراثي المستخدمة حاليا إلى أن ثمة خطر حقيقي من أن يؤدي مدى الاستثمار إلى التسبب بتركيز انتقائي على الفصائل والمشاكل ذات الأهمية العالمية، وإلى جمود رؤوس الأموال المصاحب لهذا الوضع.إضافة إلى ذلك، ثمة زيادة في اللجوء إلى حقوق "صارمة" في ميدان الملكية الفكرية الخاصة بالبذور ومواد الزرع وأدوات الهندسة الوراثية. ويؤدي هذا الوضع إلى تغيير العلاقة بين القطاعين العام والخاص على حساب القطاع الأول.
وثمة مسألة تتعلق بالسياسات العامة يتوجب على الحكومات أن تعالجها في السياق الوطني والدولي على حد سواء وهى كيفية ضمان ألا تغدو أبحاث القطاع العام "الطرف الضعيف". ومن المهم أن يحتفظ القطاع العام ولا سيما فى البلدان النامية بقدر كاف من القدرة والموارد وحرية الحركة لتوفير الخدمات التي يمكن أن يستند القطاع الخاص إليها.كما ستحتاج هذه البلدان الى بناء سياساتها وقدراتها التنظيمية بمراعاة المحاصيل المحورة وراثيا التى يتم تطويرها فى الخارج. وعلى هذا الصعيد تتعاون الاتفاقية الدولية لوقاية النباتات حاليا تعاونا عمليا مع اتفاقية التنوع البيولوجى وبروتوكول السلامة البيولوجية الخاص بها. وتقوم هذه الاتفاقية كذلك بإعداد مواصفات مفصلة بغية تحديد المعايير الدولية لتدابير الصحة النباتية التي تحدد أخطار آفات النباتات المصاحبة للكائنات المحورة الحية، فضلا عن سبل تقييم هذه الأخطار.
ثمة مسألة أخرى تهم منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة تتعلق بسبل وصول البلدان النامية وصغار المنتجين والمستهلكين إلى الأبحاث والتكنولوجيات الجديدة. وتطبق التكنولوجيا الحيوية في الزراعة على الموارد الوراثية التي تشكل ثمرة عمليات الانتقاء والتطوير التي يقوم بها المزارعون في جميع أنحاء العالم منذ العصر الحجري الحديث.وهذا ما يطرح مسألة آنية حول كيفية ضمان حصول كل من المزارعين والمربين على الموارد باستمرار.
ثمة خطوة بارزة في هذا الاتجاه هي التعهد الدولي بشأن الموارد الوراثية للنباتات الذي يستهدف تشكيل نظام متعدد الأطراف لتسهيل الوصول الى الموارد وتقاسم الفوائد في ميدان المحاصيل الرئيسية في العالم. ويوفر سبل الوصول متعدد الأطراف تقاسم الفوائد متعددة الأطراف، الذي ينطوي على تقاسم الفوائد الناجمة عن تسويق المواد من النظام متعدد الأطراف عن طريق تسديد رسم إلزامي. وأصبح حصول المربين على المواد الوراثية من أجل تربيتها لاحقا - أصعب من أي وقت مضى في حالة المحاصيل المحورة وراثيا التي تستلزم الحصول على براءات اختراع باعتبارها سلعة عامة بحاجة الى حماية. وفي هذا الصدد شرعت منظمة الأغذية والزراعة بمناقشات حول الأغذية والزراعة وحقوق الملكية الفكرية بالاشتراك مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية.
وفي حين أن التحوير الوراثي زاد من إنتاج بعض المحاصيل، تشير الأدلة إلى أن هذه التقنية لم تعالج لغاية الآن إلا عددا قليلا من التحديات ذات الصلة بعدد قليل من المحاصيل المناسبة لأنظمة الإنتاج في البلدان النامية. وحتى في البلدان المتقدمة، أدى نقص الفوائد التي تعود على المستهلكين فضلا عن الشكوك حيال سلامة هذه المحاصيل الى الحد من تطبيق هذه التقنية. وقد يؤدي نطاق الاستثمارات المعنية وجاذبية العلوم المتقدمة إلى الاخلال بأولويات الأبحاث والاستثمار.
ولا يشكل التحوير الوراثي سلعة بحد ذاتها وإنما أداة مندمجة في جدول أعمال أشمل للبحوث، حيث توازن فيها البحوث فى القطاعين العام والخاص أحدهما الآخر. بيد أن توجيه الأبحاث في الاتجاه الملائم وإعداد اتفاقات دولية كافية بشأن الأمن والحصول على الموارد يشكلان مهمة صعبة وذات مسؤولية. وفي حين أننا ندرك أكثر من أي وقت مضى مدى الحاجة إلى إدارة السلع العمومية على الصعيد الدولي إدارة مسؤولة، فإن الأدوات السياسية لإنجاز ذلك ضعيفة، كما أنه غالبا ما لا تسمع أصوات صغار البلدان والمنتجين والمستهلكين في اقتصاد يتميز بالعولمة.
واذا كان الهدف من البحوث معالجة التحديات التى يطرحها قطاع الزراعة، فاننا بحاجة لأن نضع التحوير الوراثي في سياقه،وإدراك أنه لا يشكل سوى عنصرا واحدا من العناصر المتعددة للتغير فى ميدان الزراعة. ويجب ألا يؤخذ العلماء بسحر العلوم الجزيئية الطليعية بحد ذاتها. ويجب على الحكومات أن تحول دون أن يؤدي هذا السحر أو رغبة القطاع الصناعى الخاص فى تحقيق أرباح كبيرة إلى تحويل الاستثمارات عن الأبحاث الى ميادين أخرى أكثر تقليدية (مثل إدارة المياه والتربة أو البيئة)، وعن أبحاث القطاع العام. وفي نفس الوقت تتطور العلوم على نحو أفضل في بيئة تسود فيها الحرية الفكرية ودون أن تتدخل الحكومات تدخلا مباشرا وكبيرا. إنه لتوازن صعب التحقيق حقا !
لقد كيف هذا المقال من الخطاب الرئيسي الموجه في المؤتمر حول التكنولوجيا الحيوية في ميدان المحاصيل والغابات من اجل المستقبل الذي نظمته الأكاديمية الملكية السويدية للزراعة والغابات (Falkenberg، السويد، من 16 إلى 18 سبتمبر/أيلول 2001). لمراجعة الوثيقة بكاملها (38 K، PDF)